الثلاثاء، نوفمبر 20، 2012

بعض تفاصيل الخديعة

يوم 13 أفريل 1992 تدخل أمي المستشفى الجامعي بالمرسى لتتداوى من مرض
القلب
إيه يا قلب، يا صندوق الحب، يا صندوق الأسرار، اقترن يوم دخولك المستشفى بيوم ميلادي، تتألمين أنت فأولد أنا، يا لها من مفارقة: المرض، و الفناء من ناحية
و الولادة و الحياة من ناحية أخرى ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
...................
الآن فقط عرفت لماذا كرهت يوم 14 أفريل يوم ميلادي، عرفت الآن لماذا أريد أن أشطبه من روزنامة السنين التي ربما يكتب لي أن أعشيها
...............
...............................................................................................
.............................................................................................
يوم 12 ماي 1992 هو يوم الرحيل، يوم ثلاثاء. ثلاثتنا قد رحلنا في ذلك اليوم قلبك و أنت و أنا ....
يومها كنت إلى جانبك في غرفة الإنعاش، كلمتك، كلمتني/ مسحت على جبينك/ داعبتك/ مازحتك:" سترجعين إلي يا حلوتي سترجعين كما كنت "لكنك وقتها كنت عازمة على السفر/ كنت تلملمين ذكرياتك الحلوة و تحزمين حقائب أحلامي و أحلامك لتأخذيها بعيدا بدون رجعة..........
لست أدري لماذا أخذتني الحيرة دائما كلما دخلت إلى غرفة الإنعاش و يلفني الضباب فلا أنتبه لشيء إلا لوجهك و ملامحك الهادئة / أحس أن حولك آلات كثيرة و المكان شاسع و لكنني أنجذب بقوة لوجهك فلا أرى شيئا في دائرة بصري إلا هو. دائما قررت قبل دخولي الغرفة أن أمسّد يديك و رجليك. أن أطلب العفو من كل مسامات جلدك/ أن أتفقدك/ أن أرى غطاءك و فراشك/ أن أنتبه لكل صغيرة و كبيرة حولك.... لكنني حين أراك أنجذب و أتخدر و أنسى كل شيء ....
حدثتك يومها/ عرّفتك بنفسي مخافة أن لا تعرفيني //
كم هو بشع أن لا تعرفيني
فأنا أنت// هل تهت عني يا كلّي ؟؟؟؟؟؟
هل اختلطت عليك الوجوه في هذا المكان القاحل فنسيتني؟ أم هو شوقك للرحيل صار يحركك و يأخذك بعيدا عني/ عن دائرة الضوء التي تحيط بكون الأحياء/ حدثتك/فقلت لي:" من أنا؟ من أنا؟
من أنت؟ يا روضي/ يا حضني الدافئ يا زورق سفري. من أنت؟ يا حلمي
أنت/ أنت. و ما أنا إن لم تكوني أنت؟ ما كوني و ما انعدامه و ما الدنيا بدونك أنت؟ من أنت؟ أرعبني السؤال لدرجة أنني اخترت أن أجيب بسرعة/ كأنني كنت أنتظر منك هذا السؤال "أنت أمي/ أنت ابنة علي بن الطيب" و ما أدراك من علي/ لطالما تباهيت بوالدك. لطالما تباهيت بمن يعلم القرآن للأجيال. أنت أخت فلان و فلان 

و فلان و أنا ابنتك و جميعنا ننتظر خارج القاعة/ لا تتصوري أننا   نسيناك. إننا ننتظر الإذن بالدخول إليك و ستعودين إلينا
في الماضي لم أكن أقدر أن أخاطبها هكذا لأنني لا أجد الشجاعة لإبداء مشاعري/ لم أكن أقدر أن أظهر عاطفتي لها/ حاجز كبير يمنعني من ذلك/ لكن في هذا اليوم/ في هذا اليوم بالذات تسلطت على القيد / و أجبرت لساني على الحراك
أنت شفيت تماما/و الله شفيت تماما و ستعودين إلينا
هل أنت عطشانة؟ لم تكن تجيبني لكنها كانت تنطق بالآه// آه... آ... ه, آه من حلاله ما يسمع/ آه من يحس بزوال الألم من جسمه المنهك/ و كلما سمعت هذه الآه كلما تحرك لساني و وجداني
صحتك بألف خير يا حبيبتي/ هذا ما أكده الطبيب...آه....هل أغطي رأسك؟ آ....ه هل تعرفين يا أمي/ الجميع في انتظارك خارجا. لا تظني أننا ننساك! آه....نحن ننتظر الفرصة للدخول تباعا لنراك.... آه... هل تشربين؟ آه.... هل تتذوقين قليلا من العسل؟آه....آه....آه.... و طالت الآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه و امتدت اليد اليمنى نحو الشرق و صمتت


جاءت الممرضة لتخرجني من الغرفة/ أطعتها لأنها تعرف أكثر مني. هي أدرى بصحة أمي أكثر مني/ فربما أكون قد أثرت مشاعرها بكلامي/ علي اللعنة/ دائما أنا هكذا!!!! أحاول المداواة فلا أزيد الجراح إلا نزيفا/ علي أن أخرج/ فقد أثرت مشاعرها و أتعبت لها قلبها/ المهم أنها كلمتني/ عرفتني/ المهم أنها بخير.
............
كم أنت جبان أيها الفكر!! كم يحلو لك الهروب
هل كانت فعلا بخير/ أم كنت توهم نفسك؟؟؟؟
.....................................................
......................................................
كانت الساعة قد آّذنت بالرّحيل .....قرابة منتصف النهار.....و امتلأت الغرفة بالأطباء.....لكنك أنت آثرت الهروب/
المهم أنها كلمتك..قالت آآآآآه.....هي بألف خير....................................
شاهدت حوارات صامتة بين الأطباء و الممرضين لكنك فضلت تجاهلها/ فضلت الهرب كعادتك- كم أنت سخيف
ألو راضية-أحضري فطور أمي/ إنها بخير/ لقد عرفتني/لقد كلمتني/إنها بخير/ صحتها تحسنت عن يوم أمس/ أمي لم تمت/ إنها عرفتني
........................
أخرجوني من المستشفى-بقيت في الساحة الخارجية/ أصابني برود الأموات/ لم أحاول أن أراها ثانية/ لم أصح/ لم أنتف شعري/ لم أضرب البلور فأهشمه/ لم أمزق جسمي و لم أمت/ لم أمت
!!!!كم أنا قويــــــــــــــــــــــــــــة !!!!كم أنا متماسكــــــــــــــــــــــة
جبار هذا القيد الذي يحكمني/ خرافية هذه القواعد التي تكبلني /////برود كامل, جمود سرى في كل شراييني و تماسك شديد حرّكني
المهم أنها بخير-لقد كلمتني و كفى/ لم تكن نظرتها لي شاردة كيوم أمس/ نظرت في عينيّ بحق و قالت الآه بوعي/ هي أمي.....لم أحس أنها غريبة كما شعرت يوم أمس لقد استرجعتها من المرض أخيرا
..............
..............
نطق أحدهم
تستطعن البكاء إن شئتن/ دعوهن يبكين////
لم أبكي ؟؟ ربما لأنها مريضة فقط و ستشفى-
صوت آخر يقول طبيا تعتبر من الميتين- نظرت إليه نظرة وحشية رافضة قاتلة فاستدرك- و يبقى الأمل على الله!!! الأمل ضعيف جدا –
طبعا الأمل على الله! الأمل موجود و علي أن أقاوم/ أن أتمسك بهذا الأمل ...هو أمل موجود على الأقل- إذا فهي مازالت موجودة
تلقيت الخبر قطرة قطرة ////فقتلني نبضا نبضا و خلية خلية////
صياح شديد........الرابعة مساء صرح أخي بالخبر//// لم تعد المراوغة تنفع----
جابهنا بالأمر فلم أقدر أن أفعل شيئا--- جمود لفني و جدار سطعت به---
لا مهـــــــــــــــــــــرب—
انتهى طريق المراوغة..........."لا ترفعن أصواتكن-- الجيران يسمعون//ماهذا؟ .....نحن في بلاد الناس-- الآخرون ينزعجون --إنهم لا يحبون الصياح --أختك حامل--لا تبك أتريدون لها الموت؟؟ أتريدون لها أن تجهض؟؟؟
حسنا سأصمت -- حسنا سأتجمد-- أستطيع تأجيل مشاعري—
اختنقي يا دموعي --اصمت يا ألمي لا تنزف يا جرحي—
................................
................................
سار بنا الموكب في السيارة الفاخرة / موكب مسبوق بك تمتطين صندوقا من الخشب و نحن وراءك.......أبناؤك --أحبابك-- وراءك –جميعنا ننوح و لكن الصوت لا يقدر على البوح -- طريق الوصول إليك بعيد
متى يمكن لنا الوصول إلى الموطن لنضع عن كاهلنا كل هذا الكم من الألم
و الشجن؟؟؟؟
كان أخي يقود السيارة و يمسك قليه ، كنت أحبه كثيرا لدرجة أنني امتنعت عن البكاء، كنت أنوح و أقطع شعري و أمزق أوصالي و لكن بدون حراك ولا صوت يسمع، دموع فقط تنهمر بدون أدنى حركة ، صارت سبيطلة غالية ، صارت حبيبة ، متى نصل لنتمكن من التحرر؟؟؟؟
متى أرى أهلي و أرى جدران منزلي؟ متى يحق لي أن أبكي ، متى أتمكن من إطفاء اللهب داخل صدري؟؟؟؟
عند الوصول كان الباب مفتوحا على مصراعيه، لأول مرة يفتح بابنا على مصراعيه، غص المنزل بالناس، كان الجميع ينتظرون الراحلة، هرج و مرج
و حشرجات و أصوات تنهي عن البكاء و العويل ،إلا أنت، إلا أنت فقد كنت صامتة هادئة لا تحركين ساكنا/////
بسمة هادئة كانت تعلو محياك فتكشف عن جزء صغير من قاطعتك الأمامية.
مهزلة هي الحياة نبدؤها بصيحة مفزعة و ننهيها بابتسامة ساخرة///مفارقة غريبة و تناقض مرعب
...............
............................................
طقوس التوديع كانت صعبة و غير واضحة////ماذا علينا أن نفعل؟؟؟؟كيف يجب أن نتصرف؟؟؟؟ من سيغسل أمي؟؟؟ أين؟ كيف؟ متى؟ هل نبدأ في طبخ الطعام كما هي العادة التعيسة؟؟؟
روائح الموت= الطعام + البكاء..... دائما نعبر عن أحاسيسنا 
بالمعدة/// نفرح بها و نحزن بها.........كم أكره المعدة
امرأة من الحاضرات توشوش في أذني الصماء :أريد لحمة لابني
ستنالينها /سيدتي حالما ننتهي من غسل أمي سيكون لك ما أردت/ سأكرمك سيدتي/ فقط ترقبي قليلا فاللحم كثيــــــــر
MERDE !!!MERDE !!!!MERDE !!!!!
خوف/ رعب/ ضياع//// إلى متى الإنتظار ؟؟؟؟ سأبكي/ سأنفجر/ سأعبر///// سأعبر فحبها قوي و عاطفتها جارفة و حيرتي بدونها لا توصف// لا يمكن أن يستوعبها فكري..........سأتحدث ////سأروي للجميع تفاصيل الرحيل/ تفاصيل الخديعة/// سأقـــــــــــــول للكل أنها رحلت بين يدي و لم أتفطن// لم أفهم//مغفلة!!مغفلة!!مغفلة!! سأحدث الجميع عن أمري و أمرها// عن رباطنا الصامت// عن بلاغة الصمت التي عشناها طيلة السنين!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
هستيريا من الكلام/ و من الألم و الصمت المفروض و الإرادي
...................
........................................................................................................................................................................................................نور لف المكان ليلا...

قرآن كريم...حركة جديدة تعم المكان..........أنس محيّر
!!!!!
و سكينة غير منتظرة
روحها الطاهرة تحوط أبناءها- إنها سعيدة- من مثلها!!! لقد كانت-
 مثال الطيبة و الصفاء// كم هي مباركة!!! قبرها كان واسعا مريحا// دفنت قرب المرحوم// أما جنازتها فلم يكن لها مثيل
".........
نفس الكلام يتكرر تحت مسامعها قولوا ما تشاؤون- ما يخطر على بالكم/ انا مطمئنة--------------
كانت مطمئنة فعلا هي ستسترجع أمها بعد رحيــــــــــــــــــل كل هؤلاء- سيعودالحال لطبيعته و ستصمت نداءات الحيرة داخلها........................
.............................................................................................
انتهى كل شيء/ رحل الجميع و بقي المنزل فارغا يغرد فيه البوم

 و أمها لم ترجع...ظلت تنتظرها أشهرا و سنينا... كانت تنتظرها فعلا و لكنها كانت تخدع نفسها.....روحها كانت تلازمها و لكن الجسد وحده كان متغيبا .. رفضت لسنوات زيارة قبرها// كرهت هذا القبر // لم تسلم بالأمر// كانت تستيقظ من النوم
و نداء الشوق لأمها يمزقها........................................................
الشوق...........و علام يقدر الانسان أكثر من الشوق؟؟؟؟؟؟
تراها في الحلم و هي تحتضنها فتفيق على رائحتها تغزو كامل جسدها و ظلتا متلازمتين رغم اختلاف عالميهما و رغم بعد الواحدة عن الأخرى.......... لم تعد تميز // هل هي التي ماتت أم أمها قد عادت إلى الحياة.... ظل التواصل موجودا رغم القطيعة الظاهرة بين العالمين...عالم الروح و عالم المادة..صار العالمان متماثلين 

و عاشت أمها ملاصقة لها أكثر من سنين حياتها /// تنام فتراها في حلمها—كانت دائما تحتضنها أو تكلمها فتخبرها بكل ما جد من أحداث و تلومها على غيابها فتهدئ أمها من روعها //و تطمئنها//فتستيقظ متوازنة بعض الشيء // تفيق لتجدها محفورة داخلها..............
صار يحلو لها أن تكرر كلامها أو أن تأتي أعمالها و تتصرف مثلها...تذكرها في اليوم آلاف المرات// صارت الذكرى واقعا و انتفت المسافات و احتضر الواقع على يديها الحاضر لم يعد ينفع///// ألم يعجز عن استيعاب ألمها و شوقها؟؟؟؟ لفظها فرفضته// و شاءت أن تعيش على أنقاض الماضي // تسلطت على الذكرى فصارت الذكرى هي الواقع..........................
...........................................................
..................................................
........................................
................................
.....................
...........
.....
.